كتاب سر النجاح للكاتب يعقوب صروف، يتتبع صَرُّوف قصصا ونماذج حقيقية لأشخاص تميزوا في مجالات متنوعة مثل العلم والفن والتجارة، ليسلط الضوء على المبادئ السامية التي ساعدتهم على شق طريقهم إلى القمة، مثل الاعتماد على النفس، التضحية، احترام القيم، وجود قدوة، والمزج بين الأخلاق والعمل.
من خلال الاقتراب من تفاصيل حياتهم، ماذا تعلَّموا؟ وما ظروف تربيتهم؟ وكيف شقُّوا طريقهم للقمة؟ في هذا الملخص الاول نعرض، أعظم الخزّافين في تاريخ الصناعة الأوروبية، فمن هُم هؤلاء الثلاتة؟.
أولاً. برناردو بالسي:
برناردو بالسي، ذلك الفنان الفرنسي الذي عاش في القرن السادس عشر، يمثل أحد أروع الأمثلة على الإصرار الإنساني والتفاني في سبيل العلم والفن. وُلد في بيئة فقيرة، ولم يُتح له أن يتعلّم في المدارس الكبرى أو أن يحظى برعاية النبلاء، لكنه كان مشبعًا بروح البحث والعزيمة التي لا تلين. منذ شبابه أظهر ميلًا شديدًا إلى الطبيعة والعلوم، وكان مفتونًا بالألوان والأشكال، مما دفعه إلى ممارسة الرسم والنقش والحفر، ثم التحق بمهنة صانع زجاج متنقل، يتنقل من مدينة إلى أخرى في فرنسا ليتعلم ويلاحظ ويختبر بنفسه ما يستطيع أن يكتسبه من أسرار الصناعة اليدوية.
غير أن شغفه الأكبر بدأ عندما وقع بصره ذات يوم على صحن خزفي صيني مغطى بطبقة من المينا اللامعة، بألوان لم يكن قد رأى مثلها من قبل. منذ تلك اللحظة، تملّكته رغبة لا تُقاوم في أن يكتشف سرّ تلك المادة العجيبة، وأن يتمكن من إنتاج أوانٍ خزفية مماثلة. لم يكن بين يديه لا وصفات ولا كُتب ولا أساتذة يرشدونه، بل بدأ رحلة طويلة من التجارب الشاقة التي استمرت أكثر من ستة عشر عامًا، كانت كفيلة بأن تقتل عزيمة أي إنسان آخر. كان يجمع الطين بأنواعه المختلفة، ويجرب خلطه بالنباتات، وبالمعادن، وبالرمل، ويحرقه في درجات حرارة متفاوتة، دون أن يظفر بالنتيجة المرجوة.
في تلك المرحلة، عانى برناردو من فقر شديد، فقد أنفق كل ما يملك على تجاربه العقيمة في ظاهرها، بل وبلغ به الحال أنه اضطر إلى حرق أثاث منزله ليُشعل الأفران التي يجري فيها تجاربه. لم يكن ما يفعله مفهوماً للناس من حوله، فاتهموه بالجنون، وسخروا منه، بل وحتى زوجته بدأت تظن أنه أضاع حياته في سراب. مع ذلك، لم يتوقف، بل كانت كل تجربة فاشلة تفتح له بابًا جديدًا للفهم، وكل نكسة تعلّمه ما لا يجب فعله، وتدفعه لأن يسير خطوة جديدة إلى الأمام.
وأخيرًا، وبعد تلك السنين الطويلة من المحاولات المتكررة، استطاع برناردو أن يصنع نوعًا من الخزف المطلي بالمينا الشفافة، مزينًا بألوان مستخرجة من الطبيعة، وأشكال نباتية وزواحف صغيرة نحتها بيديه على الأواني والصحون. لم يكن ما صنعه مجرد خزف، بل تحوّل إلى تحف فنية نادرة، جذبت انتباه النبلاء وأمراء البلاط الفرنسي، حتى إن الملكة كاثرين دي ميديشي سمعت عنه واستدعته إلى قصرها لتشرف على مشروع إنشاء حدائق ملكية يزيّنها بنفسه بأعماله.
بالسي لم يكن فقط خزّافًا مبدعًا، بل كان أيضًا عالمًا بالفطرة، فقد كتب رسائل وأعمالًا علمية تناول فيها بعض مبادئ الجيولوجيا والهيدرولوجيا والزراعة، مستنتجة من ملاحظاته الدقيقة للطبيعة. كان من أوائل من تحدثوا عن تأثير المياه الجوفية في تشكل العيون والأنهار، وذلك قبل أن يظهر علم الجيولوجيا بشكله المعروف.
لكن حياته لم تخلُ من المآسي، إذ إنه اعتُقل في آخر أيامه بسبب تمسكه بالمذهب البروتستانتي، في زمن كانت فرنسا تمزقها الصراعات الدينية. وقضى سنواته الأخيرة سجينًا في قلعة الباستيل، حيث توفي سنة 1589 دون أن يلقى جزاءه العادل في حياته. ومع ذلك، ظل اسمه خالدًا في ذاكرة التاريخ كرمز للعبقرية الشعبية الصبورة، وللفن الذي لا يولد من الوفرة بل من الحاجة، ولا يُصقل في النعيم بل في نار المحنة.
برناردو بالسي هو مثال نادر على أن الشغف إذا اقترن بالصبر، والموهبة إذا ساندها الإيمان بالنفس، يمكن أن يغيّرا مصير إنسان بسيط ليصبح مرجعًا في تاريخ أمة، ونبراسًا لكل من يتلمّس طريقه في الظلام آملاً أن يبلغ النور.
↚
ثانياً. جوشيا وِدجوُد:
وُلد جوشيا وِدجوُد في إنجلترا سنة 1730 في أسرة متوسطة تعمل في صناعة الفخار، وكان أصغر إخوته. منذ طفولته نشأ في بيئة مشبعة بروح الصناعة، فبدأ تعلُّم الحرفة في سن مبكرة، لكنه لم يكن صبيًا عاديًا يكتفي بتكرار ما يعلّمه الآخرون، بل كان يملك عقلًا تحليليًّا وشغفًا بالتجريب. في سن الحادية عشرة، أصيب بمرض الجدري الذي ترك أثرًا دائمًا في ساقه، ما جعله يعرج طيلة حياته، كما اضطر لاحقًا لبتر إحدى ساقيه. غير أن تلك الإعاقة لم تُثنه عن الاستمرار، بل ربما زادته عزيمة على إثبات نفسه في عالم كان يهيمن عليه الأقوياء جسديًا وأصحاب المال.
عمل وِدجوُد في عدد من ورش الخزف الصغيرة، ولكنه لم يكن راضيًا عن مستوى الصناعة القائم، حيث كانت منتجات الفخار رديئة ومحدودة الابتكار. منذ بداية مشواره، بدأ يحلم بأن يصنع فخارًا راقيًا ينافس المنتجات الصينية التي كانت حينها تُعتبر الأعلى جودة. ولكي يحقق ذلك، شرع في إجراء تجارب لا حصر لها على أنواع الطين، والمواد المعدنية، ودرجات حرارة الأفران، وصقل الأسطح، حتى توصّل إلى تركيبات جديدة من الخزف تمتاز بالصلابة والنعومة واللون النقي، وأطلق على أحد ابتكاراته اسم “خزف الملكة” (Queen’s Ware)، بعد أن أعجبت به الملكة شارلوت ومنحته امتياز استخدام لقبها.
كان وِدجوُد أول من دمج الفن بالصناعة بشكل ممنهج؛ لم يكتفِ بصناعة أوانٍ جميلة ومتقنة، بل أنشأ مصنعًا كبيرًا أدارَه بعقلية حديثة تقوم على تقسيم العمل، وتدريب العمّال، وضمان الجودة، والتسويق الذكي. كان يستقطب أفضل المصممين والرسامين ليبتكروا له زخارف مستوحاة من الآثار اليونانية والرومانية، فحوّل الخزف إلى قطع فنية راقية تجذب الطبقات الأرستقراطية في أوروبا. كما اهتم بالتغليف والنقل، فصمم صناديق خشبية مبطنة بالقش تحفظ الأواني من الكسر، ما سمح له بالتصدير إلى القارات الأخرى.
من أبرز ملامح عبقريته أنه لم يرَ نفسه مجرد صانع، بل رأى نفسه مصلحًا اجتماعيًّا أيضًا. كان يدعم العلم والتعليم، وشارك في تأسيس "جمعية القمر"، وهي تجمع فكري جمع علماء ومفكرين مثل جيمس وات (مخترع المحرك البخاري) وجوزف بريستلي (مكتشف الأوكسجين). كما كان يعارض العبودية، فصمم ميدالية شهيرة عليها صورة عبدٍ مقيد بالسلاسل وتحتها عبارة: "ألستُ إنسانًا وأخًا؟"، وقد أصبحت تلك القطعة رمزًا لحركة إلغاء الرق في بريطانيا.
رغم مرضه المزمن وصعوبة حركته، لم يتوقف عن الابتكار حتى آخر أيام حياته. أسس في أواخر عمره "قرية المصنع" في منطقة ستوك-أون-ترنت، والتي ضمّت مساكن للعاملين، ومدارس لأبنائهم، وحدائق ومرافق صحية، مما جعله رائدًا في الرعاية الاجتماعية العمالية. اعتبر أن العامل يجب أن يعيش بكرامة حتى ينتج بإخلاص.
توفي وِدجوُد سنة 1795، لكنه ترك خلفه إرثًا ضخمًا ليس فقط في عالم الخزف، بل في تاريخ الصناعة والفكر العملي والاجتماعي. كانت حياته برهانًا على أن الفن يمكن أن يزدهر بالتنظيم، وأن الصناعة لا تتناقض مع الجمال، وأن العقل الريادي يمكنه أن يغير شكل مجتمع بأكمله. لقد جمعت شخصيته بين الفنان الدقيق، والصناعي المجدد، والناشط الاجتماعي، فاستحق أن يُعدّ أحد الآباء المؤسسين للنهضة الصناعية في أوروبا
ثالثا. يوهان فريدرش بتغر:
يوهان فريدرش بتغر، وُلد في ألمانيا عام 1682، وكان منذ صغره مغمورًا في أجواء غامضة من العلم والسحر والكيمياء. نشأ في زمن كانت فيه علوم الطبيعة لا تزال مشوبة بالأساطير والتجارب الخفية، وكان الكثيرون يسعون إلى اكتشاف "حجر الفلاسفة" أو "إكسير الحياة" الذي يحوّل المعادن الرخيصة إلى ذهب. بتغر، بذكائه الفطري وشغفه بالتجريب، انجذب إلى هذا العالم المبهم، وبدأ منذ مراهقته يجري تجاربه الكيميائية في الخفاء، حتى نال شهرة محلية صغيرة على أنه قادر على تحويل المعادن العادية إلى ذهب، أو على الأقل على معرفة أسرار "التحويل الكيميائي".
ما إن وصلت سمعته إلى بلاط الملك أوغسطس القوي، حاكم ساكسونيا، حتى قرر الملك أن يحتجزه تحت الإقامة الجبرية في قصر آمن، لا بوصفه مجرمًا بل كنزًا بشريًا يجب أن يُستغل. أوغسطس لم يكن مؤمنًا بالخرافات بقدر ما كان طامعًا في الذهب لتمويل جيوشه ومشاريعه المعمارية، ولذلك أمر بتغر بالعمل على اكتشاف وسيلة لتحويل المعادن إلى ذهب داخل مختبر خاص تحت رقابة دائمة.
ولكن بتغر، الذي كان يدرك أن هذه الفكرة وهم، حاول أن يتفادى الغضب الملكي بالانشغال بتجارب أخرى، خصوصًا أن البلاط الملكي بدأ يهتم بمشكلة استيراد الخزف الصيني، الذي كان يُعد أغلى من الذهب في أوروبا آنذاك بسبب نعومته الفائقة وقوة تحمله وجمال زخرفته. بدأت أوروبا كلها تبحث عن سرّ صناعة البورسلين الصيني، وكانت تلك المعرفة حكرًا على الصين وحدها منذ قرون، لدرجة أن بعض الحكام الأوروبيين كانوا يتبادلون قطع الخزف مقابل الألماس.
وهنا انقلبت حياة بتغر من مجرد كيميائي مهووس إلى عالم يعمل على مشروع وطني ضخم. تعاون مع العالم الجيولوجي إرنست شيرهاوس، الذي زوّده بأنواع من الطين الغني بالكاؤولين، وهو المادة الأساسية لصناعة البورسلين، وبدأت سلسلة من التجارب المعقدة التي امتزج فيها العلم بالملاحظة الدقيقة، واستمرت عدة سنوات في مختبرات مغلقة في مدينة درسدن. كانت التحديات كثيرة، فالمواد لم تكن معروفة، والأفران لم تكن مجهزة للحرارة المطلوبة، ولكن بتغر أصرّ، وصبر، ودوّن ملاحظاته بدقة، واستطاع في النهاية أن يكتشف تركيبة أول خزف بورسلين أوروبي نقي وصلب، مضاهاة للخزف الصيني، في حوالي عام 1708.
أنشأ الملك أوغسطس أول مصنع أوروبي لصناعة الخزف في مدينة مايسن عام 1710، وأسند إدارته إلى بتغر، فتحوّلت المدينة إلى مركز عالمي لصناعة البورسلين، وما زالت حتى اليوم تشتهر به. كانت أعمال المصنع محاطة بسرية شديدة، وظل سرّ التركيبة محجوبًا عن باقي أوروبا لعقود، الأمر الذي منح ألمانيا تفوقًا اقتصاديًا وثقافيًا في هذا المجال.
بتغر لم يكن رجل صناعة فحسب، بل عاش التوتر النفسي والعزلة الطويلة بسبب ضغط العمل والخوف من الفشل، وكان عليه أن يقدّم نتائج باستمرار في بيئة تفتقر إلى الدعم العلمي الحقيقي، لأن أوروبا لم تكن قد دخلت بعد مرحلة العلم التجريبي المنهجي الكامل. عانى من المرض والوهن في شبابه بسبب المواد الكيميائية التي كان يتعامل معها بلا حماية، ومات شابًا في عام 1719 عن عمر لا يتجاوز السابعة والثلاثين، دون أن يدرك تمامًا حجم الإنجاز التاريخي الذي أتمه.
ما فعله بتغر كان أكثر من اختراع تقني، لقد غيّر ميزان القوى الاقتصادية والثقافية بين الشرق والغرب، وجعل أوروبا تملك أخيرًا سرًّا ظل محتكرًا لقرون في يد الحضارة الصينية. هو مثال على أن العلم، حتى حين يُولد من الوهم، يمكن أن يقود إلى الحقيقة، وأن الإبداع يمكن أن يظهر في أقسى ظروف القيد والعزلة، عندما يكون صاحبه مشبعًا بالرغبة الصادقة في المعرفة، ومسلّحًا بالصبر والعقل المراقب.
المغزى من هذه الأمثلة:
يسعى الكاتبُ من خلال هذه النمادج إلى تحطيم الفكرة التقليدية التي تهمّش الصناعات اليدوية والاختراع، ويقدم المخترع والمستنبط على أنهما مثال للعقل العملي الناجح، الذي لا يحتاج شهادات ولا ألقابًا بقدر ما يحتاج إرادة، ملاحظة، وصبرًا على التجريب.